دمشق، الاغتراب المٌبكر
ولدتُ وترعرت في دمشق، لم أعرف مدينةً سواها حتى انتصف عقدي الثاني. معرفتي بسوريا كانت كمعرفة سائر سكان دمشق، ممن لا يضطرون إلى الخروج منها إلا بقصد سياحةٍ مُحددة المقاصد، أو لرحلات عملٍ سريعة. لم يكن يحرك سكان العاصمة فضولٌ كبير للتعرف على بقية البلاد. سأفعل ذلك لاحقاً بفضل العمل، ومن ثم بفضل الثورة. قسمٌ من الوافدين إلى دمشق كانوا يذهبون لزيارة مدنهم وقراهم التي قدموا منها إما طلباً للعلم أو العمل، أو رغبةً في حياةٍ أفضل. أما «الشوام» أمثالي، فلم يكن لهم ضيعة ولا مدينة أخرى ليزوروها. دمشق كانت سوريتي بالكامل، قلما خرجت منها. ولأنها كانت كل ما هو متاحٌ لي، ولأنها كانت الوطن الذي لا أعرف غيره، كان لزاماً علي أن أكتشفها، أن أوطد علاقتي بها.
ما أن بلغت الصِبا حتى صرت أجوبها طولاً وعرضاً، أتسكع فيها بلا هدى، من جادة زين العابدين على سفح قاسيون حتى الميدان الجواني. كنتُ أسلك طرقاً أقل شهرة في المدينة تقودك إلى قبور صحابة وأولياء، وبيمارستانات وحمامات سوقٍ منسية. سريعاً سيتبدى لي كل ذلك جهداً عبثياً في امتلاك المدينة/الوطن. المفارقة المريرة تمثلت بأني كلما تعرفت على دمشق أكثر، كلما بدا اغترابي عنها أقسى. تشكل وعيي، أنا ابن الطبقة المتوسطة التي كانت تذوي باضطراد منذ مطلع التسعينات وتبتعد تدريجياً عن قلب المدينة، في إحدى ضواحي دمشق السكنية الحديثة في أطراف المدينة. هناك بدا الإدراك متعاظماً أن فكرة الوطن هذه عصيةٌ على الفهم حقاً. ماذا يعني لي الوطن؟ ماذا أعني أنا لهذا الوطن؟ هل يكفي أن أكون من هنا لأشعر بانتماءٍ سحري لهذا المكان؟ بالطبع لم تأت تلك الأسئلة المُحيرة دفعةً واحدة، كانت تتكون على وقع فهم يتعمق لخارطة دمشق الحقيقية، تلك المتعلقة بالنفوذ والطبقات، الفاعلين والمأمورين، من يملكون الحظوة ومن يقتاتون على الخوف، المنتصرين والمهزومين، أصحاب الثروات الجُدد والمفقرين. توالدت هذه الأسئلة تباعاً منذ مطلع التسعينات مع لقاءاتي الأولى بأولاد الضباط والمسؤولين في المدرسة الإعدادية، مراقبة السيارات ذات النوافذ السوداء والتندر حول أرقامها الخاصة، أحاديثٌ هامسة عن رفاقٍ أهلهم معتقلون أو خارجون حديثاً من الاعتقال، أن يتم تهديدي لأنتسب لحزب البعث، أنا الطالب الشبيبي الهزيل في بزة عسكرية فضفاضة، وصولاً لأن أفهم كيف هُزم والدي وجيله. أذكره، هو القارئ العتيد خريج جامعة عين شمس القاهرية، يصفعني ليسيل الدم خارجاً من شفتي، لأني تحدثت عن سطوة المخابرات أمام جارنا السمسار الذي كان بكل تأكيد كاتباً للتقارير أيضاً. أنا الصبي ذو الثلاثة عشر عاماً، بلعتُ دموعي وأدركتُ أن الخوف يبلعُ أبي أيضاً. أذكره هو وأمي يبكيان كأطفال لا حيلة لهما بعد عقدٍ ونيف من تلك الحادثة، عندما فتحتُ باب البيت بعد خروجي من زيارةٍ لم تطل لفرع فلسطين. نظرتُ إليهم بشفقة، لم أنبس ببنت شفة، دخلت لأنام، لم أرد الاستيقاظ حينها.
أسئلتي عن وطنٍ لا يبدو رؤوفاً، كانت أسئلة الباحث عن معنى للوطن في غياب الحرية. تسكعي في دمشق استمر، لكني أنا ابن الطبقة المتوسطة التي بدأت تُسحق مع مطلع الألفية الجديدة، المُحاط بأقرباء ومعارف من التجار والسماسرة، بدأتُ أدركُ أن هذا التسكع هو بالضبط تكريسٌ لاغتراب بدا أشد شراسة كلما عرفت المدينة أكثر، وكلما أدركت هشاشتي وهشاشة أمثالي فيها.
لا تستقيم فكرة الهشاشة مع الوطن. بل هي صنوٌ للمنفى والاغتراب. أن تعيش في قلقٍ مديد، فلا تشعر بالأمان ولا تعرف كيف ستكمل حياتك هنا وأنت لا تستطيع أن تكون جزءاً من لعبة الطاعة والنفاق. أن تعلم أن المكان يضيق فيك وبك، وأن ملجأك الوحيد هو أناسٌ يشبهونك جُلهم ينتظر أي فرصة للمغادرة، حتى لو كانت الوجهة دول الخليج حيث تعمل لتسدد بدل خدمتك العسكرية، ومن ثم لتسدد أقساط بيتٍ في ضواحي سكنية بعيدة. أن تلمس بشكلٍ متزايد كيف تغلق مدينتك مزيداً من الأبواب في وجهك، وكيف يزداد ابتعاد مركزها عن هوامشها وعشوائياتها المتزايدة. هكذا يتحول الوطن منفىً. لكني حقاً لا أملك سوى هذا الوطن! لا حيلة لي سواه، ولا غنى لي عنه، فأين الخلاص؟
جاء الخلاص بخلق أوطانٍ موازية، مساحات حرية مجتزأة، تؤسس هي لعلاقة حميمة مع الوطن المُشتهى. فأصبح الرفاق في الحي والجامعة وطناً، أولئك الذين تشاركنا معهم أحلاماً تخترق سقف وطنٍ كاد يطبق علينا. كنا نجلس في مقهى منزوٍ لم يكن، حتى حينه، مقصداً سوى لرجال في خريف عمرهم، يجترون وحدتهم مع أنفاس أراجيل التنباك العجمي. أطلقنا على المقهى اسم «خبيني»! من ماذا كنا نختبئ؟ ألم يكن من المفترض بالحياة أن تستقبلنا بأذرعٍ مفتوحة كما يليق بشباب في مطلع العشرينات؟ أقنعنا المعلم أبو سليم، بأن يسمح لنا بأن ندخن المعسل بدل التنباك، كان هذا إنجازاً يحسب لنا، ستستفيد منه أجيال لاحقة من المختبئين بعدنا. كان الوطن أيضاً في أروقة المعهد العالي للفنون المسرحية، في محاولات حثيثة للكتابة وفي كواليس البروفات لمشاريع اكتملت وأخرى لم تكتمل. كان بيتٌ دمشقي متداعٍ بالقرب من مقام الشيخ محي الدين ابن عربي وطناً أيضاً حيث يلتقي الرفاق ليسهروا الليل فيتشاركوا مشاريعهم وأفكارهم، ويتشاركوا قصص الحب أيضاً. هذه كانت أوطاناً مُصغرة في اغترابٍ معمم في وطن لا حرية فيه. مساحاتُ الحرية المسروقة هذه وحدها من يصنع حنيني لدمشق اليوم، لا شيء آخر، لا ياسمينها ولا مجالسها العامرة بالرياء، ولا مركزها الحديث الذي اختنق بالاسمنت الشاحب. لكنه حنينٌ يثقل على الروح بكآبةٍ لا تطاق. لا شيء حقاً يغريني بالعودة إلى ذلك الزمن حيث كنت غريباً، لكنه حنينٌ لا شفاء منه.
ثورة الوطن على المنفى
في سوريا الثورة تغيرت أشياء كثيرة. وبعكس زمن ما قبل الثورة، فهذا زمنٌ أتوقُ للعودة إليه، موقناً أن هذا بات مستحيلاً أيضاً. كان أجمل الأمور قاطبة في سوريا الجديدة هذه، أن أشعر للمرة الأولى أن لي سنداً حقيقياً، أن مصيري مرتبطٌ بمصير آخرين حولي. في سوريا الثورة اضمحل المنفى، وبدأت ملامح وطن جديد بالتشكل، استعدتُ الإيمان أن لوجودي هنا معنىً وهدف. لم يكن السند شخصاً بعينه ولا مجموعة ولا تشكيلاً سياسياً. كان السند سوريين كثراً يدينون بمعتقدات شتى، لكنهم جميعاً يبحثون عن وطن، جميعاً ضاقوا ذرعاً بالمنفى.
في مطلع نيسان، وفي تشييع الدفعة الأولى لشهداء دوما، في خيمة عزاء مهيبة، غمرني للمرة الأولى هذا الشعور العصيّ على الوصف بأني مسنود، بأني لست وحيداً، بأني قوي، وبأني أقبض بصلابة على فكرة الانتماء للمكان. أشيحُ بنظري مسرعاً عن صور الشهداء المعلقة على شريط في مقدمة الخيمة، لألتقي بعيونٍ دامعة تصيح بصوت عالٍ «الشعب السوري واحد». قلةٌ من قاوموا البكاء حينها. كانت تلك لحظات عمادة وطن يتشكل أمام عيني أيضاً. وطنٌ لم أعرفه من قبل. بدا اغترابي المرير في حينه شبحاً هزيلاً يتداعى أمام المُعزيّن. إحساسي بأني مسنود مضى ليتوطد قدماً في تجمعات المتظاهرين والمشيعين من سقبا إلى الميدان إلى القابون. كنا عُزلاً أمام عُصي الشبيحة ورصاص رجال الأمن. لكنا كنا أقوياء بالذات لأنها المرة الأولى التي كنا نرغب فيها بالحياة حقاً، لا الموت. كنا نرغب بأن نحيا في وطنٍ نملكه. في سوريا الثورة، كان المنفى الداخلي يسقط بسقوط خوفنا، كان الوطن يتحرر بتحرر أصواتنا المكبوتة. في أشهر الثورة الأولى، بدأت تلمس هذا الرابط السحري مع فكرة الوطن، كان رابطاً طوعياً، نزيهاً. كنت أشعر بمعنى لهذا الانتماء، كنت أفهم عراه بشكل أفضل، أواصر قوية كانت تنشأ مع سوريين، لا نعرف بعضنا البعض ولا نشبه بعضنا كثيراً، من درعا إلى عامودا، كان التوق إلى الحرية يخلق هذا الانتماء إلى وطن كان في الأمس القريب منفى.
في دمشق ، بدت المسافات تقترب بين أرياف هُمشت باضطراد في العقد الأخير وبين المدينة التي بقيت تراقب بحذر ثورة تموج في أحيائها الطرفية من القابون إلى قدسيا. لم تنجح هذه الموجات في أن تخترق قلب المدينة، الذي خضع لسطوة أمنية هائلة. بقي الصراع مع الخوف شرساً في دمشق، وبقي المنفى يحاصر الوطن الوليد. وكان أن اتخذتُ أسوأ القرارات، أن أغادر مؤقتاً نتيجة الخطر الأمني، على أن أعود بعد قليل عندما تجتاح الثورة قلب دمشق وترتخي القبضة الأمنية عن عنقها. لم يحدث هذا بالطبع. حدث فقط أن غادرت إلى بيروت مُحملاً بأحلام عظيمة، تبددت سريعاً. أُدرك اليوم أن رحيلي عن دمشق، كان إجهاضاً مأساوياً لما بدا إعادة اكتشافٍ لوطنٍ حلمتُ به طويلاً. لم أكن أعلم أن خسارات متلاحقة ستصيبني منذ ذلك اليوم دون توقف، خسرت حباً عمّر طويلاً وصداقات رائعة. بعيداً عن مدينتك، حتى وإن كنت بالأصل غريباً فيها، فإنك ستخسر الأشياء القليلة التي كانت تجعل من مقامك الأول هناك ممكناً. يغضبُ منك من بقي فيها بعد رحيلك، حتى عندما لا يجاهرون بذلك. تغضب أنت من نفسك على الدوام. آخرون يغيبهم الموت أو زنازين مخابرات النظام، فينهشك الإحساس بالذنب لأنك غادرت ولم تكن قريباً منهم. من سبقوك إلى المنفى الخارجي، طاقتهم على الحب والعطاء شحيحة، كأن أرواحهم جفت وهم يعبرون الحدود. الخواء كما الحنين يتربص بكم جميعاً. مقارعة اليأس في المنفى الجديد مهمة مضنية، أقسى ما فيها يتبدى في أن يكون الخلاص الفردي ملاذاً أخيراً للمنفيين.
بيروت المنفى، غرباء يحتضنون غرباء
لم يكن خروجي إلى بيروت طوعياً، لكن البقاء فيها كان كذلك (قبل أن أُجبر على الرحيل). كان قراراً يغذيه على الدوام الشعور بالقرب من سوريا. وللقرب هذا أوجه شتى، منها أنك في بيروت تعيش تماماً على إيقاع الحدث السوري، تضطرب المدينة وتهدأ على وقع اشتداد المعارك على الطرف المقابل للحدود. كما أنك في لبنان تعيش مع عشرات آلاف السوريين المهجرين والنازحين. سوريا، بطبقاتها الاجتماعية وناسها القادمين من أركانها الأربعة، انتقلت بجزءٍ منها إلى لبنان. كان هذا عزاءً مريراً للبقاء على مسافة تقل عن الساعتين بالسيارة من دمشق. المنفى في دول الشتات القريبة كان، حتى وقتٍ قريب، فكرةً متشائمةً ومرفوضة. عموم السوريين هناك كانوا يقتاتون على أمل العودة القريبة. «نحن على مرمى حجر»، «بكرا بتنفرج وبنرجع إنشالله». بدت هذه المنافي محطات انتظار مؤقتة قبل العودة، قبل أن ندرك أنها محطات عبور لمواصلة الشتات في أرجاء المعمورة.
[بلا عنوان- خورخي راندو]
في بيروت اللدودة، عادت الأسئلة المؤرقة عن الوطن والمنفى لتشغلني. كنتُ في مدينة أحبها فعلاً، لكنها دأبت على تذكيري بأني لستُ مرغوباً فيها، وأن مقامي فيها كمقام عموم أبنائها البسطاء سواء بسواء، هو أمرٌ شاق. كانوا هم أيضاً غرباء فيها وعنها، تضيقُ بهم وبقلة حيلتهم فيها. بيروت كانت تسحقنا سويةً، غرباء أصليين وغرباء وافدين. بيروت هي اختبارٌ هائل لفكرة المنفى في الوطن. مدينةٌ خرجت، ظاهرياً فحسب، من أتون حربٍ أهلية طاحنة، لكنها مازالت تعيش على وقع انقساماتٍ حادة. مناطقها موسومة بنفوذٍ حزبي أو طائفي، وأحياؤها الفارهة تجاور كانتونات البؤس فيها. تُعارك بحظوظٍ ضئيلة للحفاظ على ما تبقى من روحٍ دافئة فيها، تخنقها عمارات شاهقة تشكل سوراً منيعاً يحجبها عن بحرها المُصادر بدوره. هناك عنفٌ كامن في أرجائها، يتربص بالمارة، وتشعر به قابلاً للاشتعال في كل حين. شديدة القسوة على الفقراء، وبخاصة الفلسطينيين والسوريين منهم وعموم عمالها الأجانب، لكنها ليست بأرحم على أبنائها الفقراء أيضاً. لهذه الأسباب مجتمعة ربما، كنت فيها أفهم سوريا أفضل، كنتُ أراقبُ مذعوراً مآلاتٍ شبيهة وشيكة الحدوث هناك.
بعد وصولي بفترة وجيزة، استقر بي المقام في حي طريق الجديدة. كنت أمشي من هناك إلى مخيمات صبرا وشاتيلا، مخيمات فلسطينية تعيش في بؤس مدقع، اكتظت بوافدين جدد من سوريا. هناك حيث المنفى، هو ليس فقط البعد عن الوطن، بل هو انسلاخٌ عن الإنسانية جمعاء. ظروف حياةٍ بائسة يتقاسمها فلسطينيون خبروا المنفى جيداً مع سوريين يتعرفون الآن على ثقبه الأسود الكبير الذي يهدد بابتلاع أحلامهم بالعودة أيضاً. أخرجُ من المخيم في كل مرة متعجباً من أين يأتي سكانه بالصبر! ثم أمشي عائداً لأخترق طريق الجديدة، نازلاً نحو جسر الكولا، عابراً خط تماس، تظلله على الطرف الآخر أعلام حركة أمل، فأقطع حي الجناح بأبنيته الفخمة البليدة، لأصل إلى الرملة البيضا، حيث تصب مياه آسنة في الشاطئ المجاني الوحيد للمدينة. أجلس هناك مع كتابي دون أن أقرأ، وأكتفي بمراقبة عمالٍ سوريين وفقراء من كل المدينة يسرقون لحظات متعة مجانية نادرة.
في بيروت، كنتُ أغالب فكرة المنفى، فأنا مرة أخرى أحب هذه المدينة حتى لو لم تبادلني هي الحب. أريد أن أبقى فيها حتى تصبح العودة إلى دمشق مُمكنة. عاد إليّ شغفي بالتسكع، في مدينة تمقت المشاة. تنقلتُ بين أكثر من مسكنٍ، أعانني هذا كثيراً على فهمها بشكل أفضل وعلى رسم خطوط متنوعة للمشي فيها. كان التسكع الليلي وسيلتي الأمثل لأغالب أرقاً متنامياً. يتقاسم بياعو الورد والعلكة الصغار، وعمال الورديات المتأخرة في المطاعم ومحطات البنزين ومواقف السيارات الليلَ مع رواد البارات وأماكن السهر، أراقب بمتعة وجوه هؤلاء كلهم، وأنا أقطع مار مخايل إلى الجميزة وصولاً إلى وسط المدينة ثم شارع الحمرا قبل أن أعرج على المنارة وأصعد إلى الروشة. هناك التقيت للمرة الأولى بأبو صالح، وهو من صوران، كان يعيش في حلب، سألتقي أبو صالح صدفة في أكثر من مرة في المكان نفسه تقريباً، لكن الصدفة العجيبة كانت أن ألتقيه لاحقاً في الزنزانة 9 أثناء توقيفي السريع في سجن العادلية التابع للأمن العام اللبناني. كان أبو صالح سكيراً، مرحاً، ولماحاً. العالم بأسره بات بالنسبة له منفىً، فإن عاد إلى حلب، فإنه سيعيش مع ذكرى أولاده الثلاثة الذين قتلوا هناك. أحدهم قضى مع زوجته وأولاده جراء سقوط برميل متفجر على حيّهم. لكن قلب أبو صالح انفطر بالذات على صغيره ذي التسعة عشر ربيعاً محمد عرب، الذي قُتل قنصاً. كان له كلمة ساحرة في وصفه كلما حدثني عنه بصوته الأجش، كان يصفه بأنه «خامة»، ولا أفهم بالضبط ماذا يعني بذلك! لكنني أُحجم عن سؤاله وهو يردد هذه الكلمة. كان راوياً مُحنكاً، يتلو القرآن بشكل سليم، كما تعلمه في الكُتّاب. يتحدث معي في مواضيع شتى لا صلة بينها، ثم يشرد ويقول «الله يرحمو كان خامة». يصمت، ثم يطلب مني نقوداً للشرب، فأنصرف عنه وهو يغالب النعاس على الكرسي الخشبي. لم أرَ أبو صالح بعد أن خرجتُ من سجن العادلية مرة أخرى، حاولتُ البحث عنه لكنني لا أعرف اسمه الحقيقي حتى. تركني أبو صالح أفكر جزِعاً بأن العالم بأسره بما فيه سوريا المدمرة بات منفىً كبيراً للسوريين، لا هم قادرون على العودة، بل لا يملك بعضهم بيوتاً تؤويهم إن عادوا إليها، ولا هم يعرفون إلى أين سيرتحلون من جديد؟ تضيق بهم البلاد، وتبلعهم البحار، بعضهم، كأبو صالح، لم يعد راغباً في المضي أكثر. أفكر بالأب السوري الذي اضطر أن يرمي بجثة ابنته في البحر وهما على متن أحد قوارب الموت المتوجه إلى إيطاليا، كان يسافر لأجلها، كان يبحث لهما عن وطن بديل، لكنها وهي مريضة السكري، ماتت في القارب بعد أن رمى المهربون بحقيبة الأنسولين، ثم أرغمه ركابٌ آخرون على رمي جسد الفتاة بعد أن ماتت. وصل وحيداً إلى إيطاليا. ألا يحاصره المنفى الآن أينما يمم وجهه؟
في بيروت، ورغم كل شيء، بقيتُ قادراً أكثر على استبصار أحوالنا. فأن نتوقف عن فهم ما يحيط بنا، هو أشد المنافي قسوة. لهذا كنت أخشى الابتعاد أكثر. في مكان سكني الأخير قرب رأس بيروت، كان أحمد وهو في نهاية عقده الرابع، يصيح فجأة في الشارع، مخموراً منهكاً، يتجمع حوله أهل الحي، يوبخونه فيزداد صياحه، قبل أن يأتي أحد الكبار ليقنعه بأن يعود إلى غرفته. أحمد كان مقاتلاً أثناء الحرب، يقال أنه كان «يسكر حارة لحالو». انتهت الحرب، لم يكن يجيد غيرها، بدد حصته من تركة أهله، يُشاع أن أخوته اشتروا منه أملاكاً بأسعار بخسة وهم جميعاً خارج البلاد. لم يعد فتياً ولا قوياً، لم يعد أحد بحاجته، وهو لا يعرف بيروت الجديدة ولا يفهمها. في إحدى نوبات سكره الهادئة، صادفته جالساً على قارعة الطريق قرب مدخل البناء حيث أسكن، طلب مني الجلوس، ففعلت، بدا نحيلاً هرماً. سألني عن سوريا، فأجبته بما أعرف. لم يكن ينتظر إجاباتي، فكان يزعم أنه يعرف كل ما يجري ويُحاك. كان يشتم كل شيء، النظام وحزب الله، وتقاعس العرب ومؤامرات الأميركيين والإسرائيليين. لم يعد هناك ما يمكننا الحديث عنه أكثر، فاقترب مني وكأنه يفشي سراً وقال: «الحرب أخت منيوكة، وسخة، ما بتروح غير عالمعترين»، وافقته بإيماءة من رأسي وأنا أهم بالنهوض، فزمجر:« اتطلع علي، أنا غريب هون، غريب ببيروت يا الله». راعني وأنا الغريب هنا أيضاً أن أمنحه أي مواساة، غادرته بهدوء. أحمد كان صورتي القاتمة عن سوريا ما بعد المقتلة.
كانت شهوري الأخيرة في بيروت صراعاً مريراً مع فكرة الرحيل القسري عنها. منذ أن أصبحت بلا جواز سفر، وبلا أي إقامة نظامية في لبنان، أصبحت أكثر هشاشة، حتى تسكعي الليلي بات حذراً، بت أراعي وجود حواجز الدرك وأتحاشاها. سنة ونصف قضيتها في بيروت وأنا بلا أوراق. قال لي مرة أحد الأصدقاء الفلسطينيين السوريين: «جواز السفر الذي يُمكنك من التنقل دون عوائق هو الوطن». تبدو هذه الجملة مألوفة للفلسطينيين بالذات، الشتات السوري حديث التشكل، لكنه يقارب التجربة الفلسطينية بخطوات حثيثة، لا بل يزيد عليها كماً وألماً ربما. لم تَرُق لي فكرة وطن مشيّد حول جواز سفر وأوراق ثبوتية صالحة. بدت صورةً رمزية مُبتذلة. لكن حياةً بلا أوراق هي حياةٌ لا نملك من قراراتها إلا النذر اليسير، وهذا أيضاً من أوجه المنفى الأشد قسوة. جاء قرار الأمن العام اللبناني في مطلع العام ليغير حياة السوريين في لبنان بشكلٍ جذري، عشرات الآلاف فقدوا حقهم بالإقامة الرسمية أو باتوا مهددين بفقدانها. كان هذا إنذاراً صريحاً بوجوب التضييق على السوريين ودفع من يستطيع منهم إلى الرحيل إلى أي وجهة. الأمن العام بالذات جعل من مقامي في لبنان مُستحيلاً. رفضوا باستمرار منحي إقامةً نظامية. وكلما بات خيار السفر القسري حتمياً كنت أتعلق أكثر ببيروت. أعتقد أني أفضل المنافي التي خبرتها واخترتها طواعية، كنتُ أخشى من منفى تحل فيه الغربة بديلاً عن الاغتراب. في شهوري الأخيرة في بيروت، كنتُ متفهماً أكثر لفكرة العيش غريباً في أوطان نحبها هكذا كما هي، نحبها لأننا لا نملك سواها. كنتُ أخشى من حياةٍ كريمة في أوطانٍ تقوم بيننا وبينها صلات أوراق ثبوتية وجوازات سفرٍ فحسب. في الأسابيع الأخيرة في بيروت، زدتُ من ساعات تسكعي، صرتُ ميالاً أكثر للعزلة، ازدادت رغبتي بالكتابة وبالحب مجدداً، بتُ مستعداً له أيضاً، كان هذا فعل معاندة رحيلٍ جديد. أردت التشبث بهذا المكان… دون جدوى.
ستحملنا الريح إلى الوطن
في مطار بيروت أخبرني ضابط الأمن العام بابتسامة عريضة، أنني ممنوع من دخول لبنان مدى الحياة. لسببٍ ما بدا الأمر مضحكاً لعنصرين شابين يتحلقان حول مكتبه! ضحكت أنا بدوري. ولما لا! الأمر برمته أضحى ملهاةً عجيبة.
الوصول إلى برلين في الصيف هو أمرٌ محمود، فشتاؤها كئيب. كنتُ محظوظاً أيضاً لأني وصلت بالطائرة، سوريون كثر ركبوا البحر في زوارقٍ بائسة، أو مشوا شهوراً في غاباتٍ وافترشوا العراء كي يصلوا إلى هنا. لم يكن المنفى بالطبع هو ما ينشدونه، كانوا يبحثون عن وطنٍ بديل. الوطن هنا يُعرّف بأنه المكان الذي تأمن فيه على حياتك وعلى مستقبل أولادك، نقطة انتهى.
أكملتُ الشهر الأول لي هنا منذ أيام، ألجأ إلى الصمت أغلب الوقت، أحاول أن أفهم موقعي في المنفى الجديد. المنفى هنا هو أيضاً لغة. لا أعرف متى سأتعلم الألمانية، فالعربية كانت وطناً أيضاً، لا أجيد الكتابة بغيرها، ولا أحب التفكير بسواها. لا أريد أن أصبح ألمانياً أو أوروبياً، وحتى إن أردت فلن أصبح واحداً أبداً. هذا يقينٌ كافٍ لإحداث قطيعة مع أي خيالٍ عن وطن بديل. الهشاشة هنا تتبدى في إحساسٍ متعاظمٍ بالذنب لأنك تحيا بأمان، فيما أهلك وأصحابك هناك في الطرف الآخر من العالم محاصرون في منافٍ يشتد بأسها في وطن تأكله الحرائق. الهشاشة هنا تقصم ظهري وأنا أراقب روضة الأطفال القريبة من مكان سكني، فأدرك كيف يعيش الناس هنا. التأمل في عدالة هذا العالم منبعٌ سخي للألم وللغربة أيضاً.
يخبرني صديق، بأنه تحرر من الفكرة المقيدة للوطن. يريد أن يجوب العالم، سئم أن يظل أسيراً لوطنٍ مُشتهى لن يكون. سمعتُ تنويعات مختلفة على هذه الجملة من أصدقاء سوريين في برلين. يحتاج الأمر شجاعة ولا شك، لكنهم جميعاً تجنبوا النظر في عيني وهم يحدثونني عن التحرر من فكرة الوطن ومن أوهام الغربة والمنفى. بدا ادعاء الصلابة هذا لديهم كقشرةٍ رقيقة تخفي تحتها ضعفاً ومزيجاً من حنينٍ إلى سوريا ويأسٍ من أن تكون قريباً وطننا المُشتهى. بدا رفاقي وبدوت معهم كأوراق شجرٍ متساقط لا يتحكم في مصيره، ولا يعلم بالضبط في أي أرضٍ سيرسو. نعلم فقط أن الريح ستحملنا، كما في قصيدة فروغ فرخزاد الشجية، نحلم أن تعود بنا إلى سوريا التي ستكون.لا نعرف متى سيحدث ذلك، ولكن إلى أن يحدث، ربما علينا أن لا نعاند هذه الريح، وأن نحمل وطننا كما اغترابنا في قلوبنا أينما كنا.
في ليلي القصير، ياللأسى
الريح على موعد مع أوراق الأشجار
في ليلي القصير، ياللأسى
هناك ألم الدمار
أصغِ..
هل تسمع عصف الظلام
تبدو هذه السعادة غريبة علي
أنا مدمنة يأسي.
…
لحظة
وبعدها لاشيء
وراء تلك النافذة يرتجف الليل
والأرض تكف عن الدوران.
وراء تلك النافذة
شيءٌ مجهول يراقبنا.
ضع يديك مثل ذكرى محترقة
في يدي العاشقتين
وضع شفتيك، وكأنهما إحساس دافئ بالوجود، برفق
على شفتي العاشقتين
فالريح ستحملنا معها
ستحملنا الريح…
* نُشرتْ هذه المادة لأول مرة في “الجمهورية”، وذلك ضمن إطار ملف أعده عدي الزعبي يتناول قصصاً شخصية وتأملات عن المنفى والغربة واللجوء والحنين. يشارك في الملف عدد من الكتاب والشعراء والفنانين السوريين. يعاد نشر المادة في “جدلية” بالاتفاق مع المؤلف.